Tuesday, 23 October 2012

بقلم المحامي حسن بيان: الحراك الشعبي العربي ونظرية المؤامرة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحراك الشعبي العربي
ونظرية المؤامرة
شبكة البصرة
بقلم المحامي حسن بيان
الصوره من الشروق
منذ عامين والأمة العربية تعيش حالة مخاض شعبي، ارتقى في سياقاته من الإرهاصات التي كانت تختلج بها هذه الأمة، إلى مستوى الانتفاضة التي تباينت الرؤى بشأنها، فالبعض أدرجها تحت تصنيف الثورة، وبعض آخر أدرجها ضمن "نظرية المؤامرة"، وما بين اعتبار هذا الحدث الارتجاجي "ربيعاً" من وجهة نظر، أو اعتباره "خريفاً" من وجهة نظر أخرى، أو في منزلة ما بين المنزلقين، تكاد المقاييس الموضوعية تغييب عن التوصيف الاكثر مقاربة وتكاد الأسباب الحقيقية "تُجهل"، وهذا ما أدى إلى فتح نقاش سياسي حول طبيعته ا لتوصيف لهذا الذي تشهده الساحة العربية.
من خلال هذا التباعد بين وجهتي النظر للواقفين على ضفتي اعتبار الذي جرى ويجري ثورة أو مؤامرة، نلج الى صلب هذا النقاش بغية تحديد مقاربة موضوعية لهذا التطور البارز المفتوحة تفاعلاته على المستقبل.
بداية لا بد من الإشارة، إلى أن الحراك الشعبي، الذي انطلق تحت شعار الشعب يريد التغيير، وكأجرأ سياسي معجل، الشعب يريد إسقاط النظام، اسفر حتى تاريخه، من إسقاط أنظمة في أربعة مواقع عربية وأن بمواصفات وآليات مختلفة وأن الحراك يستمر في أقطار أخرى بأشكال وتعبيرات مختلفة أيضاً. وفي ضوء ما افرزته معطيات هذا الحراك، يطرح التساؤل التالي: هل ما حصل هو ثوره بكل ما للكلمة من معنى ودلالات، أم أنه بعيد كلياً عن معطى الفعل الثوري وهو يندرج ضمن مفهوم "نظرية المؤامرة".

إن الذين يعتبرون ان ما تشهده الساحة العربية من حراك شعبي إنما يندرج ضمن نظرية المؤامرة، إنما يسندون حجتهم إلى المبررات التالية:
المبرر الأول: ان الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه، كان وما زال وسيبقى محط استهداف الاستراتيجيات الدولية المتقابلة وتلك الإقليمية الملتحقة أو المتماهية معها، وبالتالي فإنه من خلال قدرة أصحاب هذه الاستراتيجيات على التأثير، بالاستناد إلى الامكانات الكبيرة المتاحة لهم لا يمكن أن يتركوا هذه المنطقة في حالة تفلت من قبضهم أو تهاوي هيمنهم عليها.

المبرر الثاني: إن الفترة الزمنية الطويلة نسبياً، للاستعمار المباشر لهذه المنطقة على مستوى الكل القومي وعلى مستوى الجزء القطري، مكنت القوى الاستعمارية من إقامة مرتكزات سياسية واجتماعية، تلجأ إليها عند الحاجة، لتوظيفها في الاتجاه الذي يخدم مصالح هذه القوى.

المبرر الثالث: ان هذه المنطقة التي تشغل موقعاً شديد الأهمية في الجغرافيا و السياسية الدولية والقارية تحتوي على مخزون من النفط والمواد الأولية، وبه ترتبط عجلة الانتاج الصناعي والمنظومات الخدماتية، وان القوى الاستعمارية لا تتساهل مع من تعتبره مهدداً لهذه السلعة الاستراتيجية، لا بل فإنها ربطت أمن هذه السلعة بأمنها القومي وكما تفصح الإدارة الأميركية دون مواربة أو التباس.

المبرر الرابع: ان خروج المنطقة العربية من تحت سقف الهيمنة الدولية، وبروز حالة شعبية ضاغطة على النظم الحاكمة في الحد الأدنى، ومنشئة لنظم وطنية مستقلة مفتوحة في برامجها السياسية الاستراتيجية على التوحد القومي، يجعل من الكتلة الشعبية العربية، كتلة مؤثرة ليس في إدارة شأنها الخاص بعيداً عن الإلحاق والتبعية وحسب، بل عنصراً مؤثراً في نظام التوازنات الدولية خاصة وان هذه الكتلة تشغل الشواطئ الشرقية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط وهو نقطة التوازن في النظام الدولي ومسرح تصادم الاستراتيجيات الدولية المتقابلة باعتباره الحاجز الجغرافي الكامل للشمال عن الجنوب.

المبرر الخامس: ان اغتصاب فلسطين، لم يكن باستهدافاته السياسية اغتصاباً لفلسطين وحسب، بل أيضاً لإقامة قاعدة ميدانية استراتيجية للمواقع المقررة في النظام الاستعماري، تنفيذاً للاستراتيجية الدولية التي أرسى دعائمها الأولى نابوليون، يوم كانت فرنسا هي الإمبراطورية الأكثر نفوذاً في العالم وفي المحيط القاري. وان أمن الكيان الصهيوني، المحتضن دائماً من مراكز التقرير في النظام الاستعماري والذي تبدلت مواقعه ويستقر حالياً في العقل السياسي الأميركي، لا يسمح بأن تحصل متغيرات سياسية تؤثر على أن هذا الكيان والوظيفة المناطة به في استراتيجية السيطرة والهيمنة على العالم.

هذه المبررات الخمس الذي يتناولها أصحاب إدارج الحراك ضمن نظرية المؤامرة، تكفي بنظرهم لأن تجعل تغيير سياسي يصب في حوض هذه الرؤية، وأنه إذا ما تمكن هذا الحراك من فرض تغيير ساسي، فهذا التغيير مطلوب لأجل تجديد شخصية الأنظمة التي اُستهلكت ولم تعد قادرة على تلبية متطلبات قوى التأثير الدولي في الخارطة العربية، ولهذا يرى أصحاب هذه النظرية ان هذا الحراك كان استجابة لأجندة مطالب خارجية، خاصة بعدما تبين، ان القوى الخارجية من دولية وإقليمية، أخذت تقدم نفسها كمظلات السياسية مع تغطيات إعلامية، ومساعدات على أشكالها، وتدخلاً بصيغة أو بأخرى في الحراك لتوجيه دفة الأمور بالاتجاه الذي يخدم مصالحها وبالتالي فإن هذا الذي جرى ويجري لا يندرج ضمن معطى التغيير الثوري، ولذا فإن القادم اسوأ من المغادر.
هذا من جهة الذين يعتبرون ان ما تشهده الساحة العربية، إنما يندرج ضمن "نظرية المؤامرة" واستناد إلى ما تقدم من مبررات تغيير أساسية لإسناد وجهة النظر هذه وان كانت هناك عوامل أخرى تتماهى مع هذه المبررات الأساسية.
أما الذين يعتبرون أن الحراك الشعبي العربي، هو إفصاح عن معطى ثوري حقيقي، فإنما يسندون وجهة نظرهم إلى أسباب جوهرية وفرت شروطاً موضوعياً يجعل هذا الحراك يندرج، تحت عنوان الثورة.

من هذه الأسباب الموضوعية:
أولاً: القهر السياسي المتراكم في الوجدان الشعبي الجمعي للجماهير العربية والذي بدأ يقترب أو بتعبير أدق قارب درجة الغليان، بعدما استفحلت إجراءات القمع التي أدارتها المنظومات الأمنية المتحكمة بالقرار السياسي، بحيث باتت هذه المنظومة هي القيادة الفعلية للسلطة.

ثانياً: الفساد الذي اسشترى في مفاصل السلطة بكل أجهزتها ومؤسساتها السياسية والأمنية والقضائية، بسبب غياب وتغييب المساءلة وانعدام الشفافية في إدارة الحكم، واعتماد نظام المحسوبية في تولي المناصب العلمة، وتحول الاقتصاد إلى اقتصاد ريعي، يبغي الربح السريع، والذي أدى إلى تدن مرعب في فرص العمل، وازدياد البطالة، وأتساع مساحة قاعدة الشرائح الشعبية فقراً وعوزاً، وحيث أشارت التقارير ذات الصلة بالتنمية البشرية في الوطن العربي، ان واحداً من كل خمسة أشخاص يعيش تحت خطر الفقر، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن معدلات الفقر وحسب تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2009 بلغت 41% من مجموع عدد السكان.

ثالثاً: غياب الديموقراطية عن مجرى الحياة السياسية العربية، بحيث انعدمت فرص تداول السلطة، وساد نهج التوريث السياسي والتأبيد بالسلطة، بحيث لا يترك الحاكم منصبه إلا إلى مثواه الأخير. وهذا التأبيد في نهج الحكم ما عدا استثناءات قليلة، ترافق مع حملة ترويج مفهوم سياسي، يجعل من الحاكم مختصراً للوطن في ذاته، بحيث عُد سقوط الحاكم، سقوطاً للوطن، وكان السلطة حق الهي، ممنوع نقدها، أو تبديلها، وهذا أدى إلى جعل الحاكم يحتكر المسميات الوطنية بكل مفرداتها، فهو عنوان للوطنية ورمزها، ومن والاه هو الوطني بامتياز، ومن عارضه، هو الخائن بامتياز، وبحكم ان الخيانة يقع مرتكبوها تحت طائلة المساءلة بعقوبة الحد الأقصى، فكان أن صنف المعارضون خونة، وطبقت بشأنهم أقسى العقوبات.
وهذا التأييد للحاكم، الذي حصن نفسه بتشريعات وضعية، أسندها بتأييد شعبي فلكوري عبر ثبات الرقم 99.99 في الاستفتاءات الشعبية.

رابعاً: تبعية النظام الرسمي العربي بأكثريته الساحقة لمراكز التقرير في النظام الدولي.
إن السلطات الحاكمة في الوطن العربي لم تكتف، باعتماد الاستلاب السياسي للشعب في إدارة الشأن الداخلي وحسب، بل اعتمدت أيضاً الالتحاق مباشرة أو مداورة بمراكز التقرير في النظام الدولي، ومما أدى إلى جعل الجماهير العربية تقع تحت تأثير حالة استلاب قومي، كانت أبرز تجلياتها الانخراط في منظومات سياسية وأمنية وعسكرية تتعارض في أهدافها مع مصالح وطموحات الأمة العربية وعلى سبيل المثال لا الحصر، توقيع الاتفاقيات مع العدو الصهيوني، مع ما ترتب عن ذلك من اعتراف شرعية الاغتصاب الصهيوني لفلسطين،و مشاركة جيوش عربية في الحرب الأطلسية على العراق عام 1991 بحجة الالتزام بالشرعية الدولية والعدوان عام 2003.
هذه التبعية للنظام العربي لم تتوفر حاضنة شعبية لها بحيث أن الجماهير كانت دائماً في الموقع النقيض لسلوك الأنظمة وفي كل ما كان يهدد الأمن القومي بجوانبه السياسية والمجتمعية.
وهذا كان سبباً في ارتفاع وتيرة الحنق السياسي على المنظومات الحاكمة.

خامساً: الضخ التعبوي الذي أفرزه العمل المقاوم للاحتلال والعدوان الأجنبيين، حيث أن الجماهير العربية، التي كانت تعيش ظروفاً اجتماعية واقتصادية وإنسانية شديدة القسوة والتي كانت مترافقة مع قهر سياسي وظلم سياسيين موصوفين، كانت تنشد بأحساسيها إلى الفعل العربي المقاوم الذي برز في ثلاث ساحات، فلسطين والعراق ولبنان.

هذا الفعل المقاوم والذي استطاع أن يحقق إنجازات قومية هامة، أهمها دحر لاحتلال الأميركي عن العراق، وتحرير لبنان ومنع العدوان تحقيق أهدافه في تموز2006، واستمرار الاداء المقاوم في الأراضي المحتلة على رغم التعقيدات الذاتية الموضوعية المحيطة بالوضع الفلسطيني والصمود في وجه عدوان 2009،كلها شكلت علامات مضيئة، وهي بما استطاعت أن تنجزه وخاصة بالطريقة التي أدارت فيها المقاومة الوطنية العراقية حربها التحريرية ضد المحتل الأميركي والمتحالفين والمتقاطعين معه، لعبت دوراً بارزاً في تحقيق حالة امتلاء نفسي وسياسي في مواجهته مشاريع الافراغ السياسي للخطاب العربي من مضامينه الوطنية والقومية.
إن هذه الأسباب التي جرت الإشارة إليها، هي عناوين رئيسية، إذ ثمة عناوين أخرى، ترتبط بشكل أو بآخر بهذه العناوين. وإذا كان واحد من هذه العناوين يكفي لتفجير وضع ثوري، فيكف إذا تجمعت هذه العناوين، من القهر السياسي الاجتماعي في وعاء مجتمعي واحد، إلى فساد الأنظمة وبتبعيتها وتآمرها والتوريث السياسي والتأبيد في السلطة، والموقف السلبي لا بل المعادي للفعل المقاوم للاحتلال الأجنبي، صهيونياً كان أو دولياً أو إقليمياً.إلا يكفي ذلك ليكون عاملاً مفجراً لوضع شعبي بعد بلوغه درجة الاختمار؟؟
ان اطلالة سريعة على الوضع الشعبي العربي باختلاجاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية يبين بأن العوامل الموضوعية لإطلاق الحراك الشعبي العربي كانت متوفرة، وهذا الحراك إنما انطلق استجابة لحاجة شعبية عربية، بعدما عانى الشعب العربي في مختلف أقطاره من القمع و الاستيلاب ومصادرة دوره، وإماتة حياته السياسية في مجتمعاته، وحالت النظم دون تداول ديموقراطي للسلطة، فكان هذا الذي وقف العالم على معالمه الأولية في انطلاقه الحراك الشعبي على عموم الساحة العربية تحت عنوان، الشعب يريد التغيير. لكن يبقى السؤال هل هذا الحراك ضمن هذه المعطيات يندرج تحت توصيف الثورة المكتملة العناصر.
الصوره من الشبكه العربيه للاخبار

بالرجوع إلى أسانيد وجهتي النظر، نتوقف عند تساؤلات لا بد منها، للخروج بخلاصات تقارب الموضوعية في تقويم الأمور.
التساؤل الأول: هل التدخل الأجنبي، بشقيه الدولي والإقليمي، لم يكن موجوداً، وهو ظهر واطل برأسه فور انطلاق الحراك الشعبي، ليقال، بأن هذا التدخل واكب زمنياً بداية هذا الحراك وبتواصل معه؟
الجواب هذا التساؤل، يندرج ضمن البديهيات وهو ان التدخل الأجنبي بكل أشكاله وعلى تعددية مواقعه ليس أمراً طارئاً على الحياة العربية، وهو قديم، قدم التشكل القومي لهذه الأمة وكان كل مرة يأخذ أشكالاً مختلفة، وهذا التدخل سيبقى قائماً طالما بقي الصراع على المنطقة العربية يحتل موقعاً مركزياً في صراع الاستراتيجيات الدولية والإقليمية المتقابلة.

التساؤل الثاني: هل إذ توقف الحراك، يتوقف التدخل الأجنبي المندرج ضمن نظرية المؤامرة؟
إن الجواب على هذا التساؤل، يرتقي حد البديهية، وهو طالما أن التدخل سابق للحراك، فسيبقى قائماً إلى ما بعد رسو على هذا الحراك على نتائج سياسية محددة المعالم أو الابعاد وأن هذا التدخل إذا اشتد في هذه الأونة، فلأن أطرافه يريدون أن يكونوا على مقربة وعلى تماس مع الحدث وفي موقع المؤثر عليه إذا ما أتاحت لهم الظروف، كي لا تتفلت الأمور وتخرج عن نطاق السيطرة والاحتواء للوضع العربي،

التساؤل الثالث: هل ان التدخل الأجنبي يأخذ شكل تواصل مع القاعدة الشعبية العريضة، أم يعمل عبر حضوره المباشر، أم عبر مسك واحتواء المفاصل السياسية والأمنية في النظم التي مارست سياسة التعبية أو تلك التي عملت تحت سقف الاستراتيجيات الدولية والإقليمية والتي لم يتوان أصحابها عن القتال وضرب من كل يحاول أن يخترق سقف هذه الاستراتيجيات، وكما حصل مع مصر في ظل الثورة الناصرية، ومع الثورة الفلسطينية ومع ثورة العراق في ظل حكم البعث، وحيث أن هذه النماذج الثلاث تعرضت للعدوان عليها عندما تبين عجز احتوائها؟؟ان منطق الامور يقول ان التدخل الاجنبي يتم عبر حلقات فنية سياسية كانت ام امنية ام اقتصادية وليس بتواصل مع حركة شعبية عارمة.

أما أن يأخذ هذا التدخل الأجنبي، وعبر وسائط ووسائل مختلفة، عسكرية واقتصادية وسياسية وإعلامية وتحت شعارات خدمات إنسانية، بعداً جديداً، فلأن الحدث، هونوعي، وهذا ما أملى تكيف وسائط هذا التدخل مع نوعية الحدث، ولتحقيق ثلاث أهداف متدرجة ولكن تصب في غاية واحدة.
الهدف الأول: أضعاف الاتجاه الوطني في هذا الحراك كي لا يصل إلى مدياته القصوى في شد الحراك إلى مرتكزات المشروع الوطني ذي المضمون التحرري ببعديه الاجتماعي والقومي ذلك بتدخل مباشر.

الهدف الثاني: في حال حيل دون تحقيق الهدف الأول، عبر التدخل المباشر فاللجوء الى تقديم مساعدات لتشكيلات سياسية واجتماعية، ملتبسة في برامجها السياسية لتمكينها من قيادة هذا الحراك وبالاتجاه الذي يجعلها في الموقع المؤثر لتحديد مسارات التغيير والذي يفترض فيه أن لا يمس الثوابت التي يعتبرها أصحاب الاستراتيجيات الدولية والإقليمية، ضامنة لمصالحهم.

الهدف الثالث: وفي حال عدم تحقق اي من الهدفين، دفع الأمور باتجاه صراع داخلي، يتجاوز حدود التعبيرات الديموقراطية في التعبير إلى صراع مسلح، ينخرط فيه الجميع، من موقع السلطة المعترض على دورها وأدائها والمعارضة التي تندفع بردة فعل إلى عنف ضاد للعنف السلطوي، مضاف إليها الصراع السياسي بين أطراف الطيف المعارض والذي يصل في بعض الأحيان إلى الصراع المسلح حول أولوية الموقع والدور. وان الذي جعل اطراف الحركة السياسية المعارضة تعيش حالة ارتباك سياسي فمرده الى الاسباب التالية :
أولى هذه الأسباب، ان الحراك الشعبي العربي في تعددية الساحات التي حصل فيها، لم تتوفر له محورية مركزية في التخطيط والتنفيذ والتحكم،

وثاني هذه الأسباب، ان القوى السياسية المفترض فيها ان تكون معنية بقيادة هذا الحراك لم تكن تقف على أرضية موقف سياسي واحد في رؤيتها لآلية التغيير كحد أقصى أو الإصلاح كحد أدنى، فضلاً عن عوامل القهر السياسي واستبداد الأنظمة والعنف السلطوي المتعدد الأشكال، الذي أدى إلى تشتت الحركة السياسية الوطنية وجعلها أما في داخل مصادرة فيه كل أشكال التعبيرات الديموقراطية، وأما في خارج بحثاً على ملاذٍ آمن من جور سلطة جائرة أو بحثاً عن فرص عمل.

أما ثالث الأسباب، فإن حجم الانفجار الشعبي كان قوياً بامتياز، بحيث أنه فاجأ السلطات التي عجزت عن احتوائه بداية والتعرض له بالقمع بعد العجز عن الاحتواء، كما فاجأ القوى السياسية على مختلف مشاربها الفكرية والسياسية، بحيث بدا ان هذه القوى السياسية هي في مواقع متخلفة عن شعارات الحراك، وأعجز من أن تؤطره في سياق حركة منظمة ضمن استراتيجية تغيير واضحة، أن دفعة واحدة على مراحل، ولهذا بدت الجماهير متقدمة في شعاراتها وتحركها عن القوى السياسية التي سعت لركوب هذه الموجه الشعبية لتأخذ موقعاً لها في الحصاد السياسي.

أما رابع الأسباب، ان الحراك الشعبي العربي باتجاهاته التغييرية بالبعدين الاجتماعي والقومي، لا تتوفر له حاضنة سياسية قومية يتكئ إليها في صراعه المفتوح على آفاق تغييرية، فيما توفرت للنظم الحاكمة وقوى الاختراق للحراك الشعبي المرتبطة بأجندة أصحاب الاستراتيجيات الدولية الإقليمية، وسائط دعم غير عادية، تدرجت من الإعلام إلى السياسة والدعم اللوجستي والتسليحي.

أما خامس الأسباب، فهو ازدواجية المعايير في التعامل مع هذا الحراك، ففيما ايد البعض هذا الحراك في ساحة معينة، كان ضده في ساحة أخرى. علماً أن الحراك كان باعثه واحداً وهو الانتفاض ضد القهر والظلم والسياسي والاجتماعي والإنساني. وهذه الازدواجية في التعامل مع هذا الحراك، أملتها الاعتبارات السياسية لأصحاب الاستراتيجيات الدولية والإقليمية ومن التحق بها من التفصيلات السياسية في ساحات الحراك، وبهذا غلبت مصالح العلاقات السياسية، على مصالح الطبقات الشعبية والفئات الكادحة وقاطني العشوائيات حول المدن التي كان يدار اقتصادها من قله متناقصة تقاسم المنافع مع الرموز السلطوية.
هذا الواقع المعاش للحراك الشعبي، وما استطاع إفرازه حتى الآن يبين أن الذي جرى ويجري في الساحة العربية، لا يندرج تحت توصيف الثورة المكتملة العناصر، لان عناصر الثورة التي هي فعل تغييري بعضها متوفر وبعض آخر غير ذلك.
من العوامل المتوفرة، البيئة المجتمعية التي لا بد من توفرها لقيام الثورة أو اندلاعها، وهي القهر والظلم والفقر والعوز والفساد والبطالة، والتبعية للأجنبي وبشكل عام كل ما يندرج تحت عنوان الاستلاب الاجتماعي والوطني. هذه البيئة المجتمعية جعلت الفئات الشعبية التي تعاني من هذا الوضع، تشكل قاعدة عريضة لأي تحرك شعبي، وبهذا تكون مناخات الثورة الاجتماعية ومادتها الشعبية متوفرة.
أما من العوامل التي لم تكن متوفرة، فهي وجود الأداة الثورية سواء كان حزباً أو جبهة، القادرة على تأطير عوامل الاستياء والتذمر والرفض الشعبي للواقع المعاش على الصعيد الاجتماعي والسياسي ببعديه الوطني والقومي. إذ أن هذه الأداة لم تكن متوفرة لأجل قيادة الحراك الشعبي وتنظيم صفوفه، وتقديم قيادة هذه الحراك لنفسها باعتبارها مرجعية نضالية وسياسية للجماهير الشعبية. وهذا ما أدى إلى ثلاث نتائج سلبية، الأولى، ان قوى الحراك الشعبي التي رفعت شعار الشعب يردي التغيير، توحدت حول الشعار واختلفت على تطبيق آلياته. والثانية، ان هذا الاختلاف وعدم التوافق على استراتيجية مرحلية، دفع القوى السياسية المنخرطة في الحراك أو التي ركبت موجته لأن تدخل في صراع مبكر حول السلطة، وحول الأولويات المطلوب تنفيذها، والثالثة، ان هذا الاختلاف، دفع قوى سلطوية لأن تتمرس في مواقعها وتدافع عن مواقعها على قاعدة المراهنة على الاستنزاف وارهاق الحركة الشعبية وبالتالي جعلها مفتوحة على القبول بحلول تعيد إنتاج النظم لنفسها مع بعض التجميلات التشكيلية.
من هنا، نقول، ان الذي حصل وأندرج تحت عنوان الحراك الشعبي، ليس ثورة بمدلولها العلمي للتغيير الشامل، وفي نفس الوقت فإن الذي جرى ويجري لا يندرج ايضاً تحت نظرية المؤامرة.
ان اعتبار هذا الحراك ثورة مكتملة المواصفات، يفتقر إلى التدقيق الموضوعي بتوفر مقومات الثورة، إذ لا تكفي المناخات الثورية والمادة الثورية لقيام الثورة بل يجب توفر الأداة الثورية الواضحة في رؤيتها واستراتيجيتها وهذا ليس متوفراً. أما اعتبار هذا الحراك يندرج ضمن نظرية المؤامرة، ففي هذا ابتعاد عن المقاربة الموضوعية، بل أكثر من ذلك فيه إدانة لهذا الحراك ولكل التضحيات التي قدمت وهي تضحيات جسيمة بالقياس الى الذي تحقق حتى الآن، ان اعتبار ان الحراك الشعبي وبالشكل الذي حصل فيه وسيتمر بأشكال مختلفة في تعبيراته، هو مندرج ضمن نظرية المؤامرة، فهذا يعني إسقاط هذا المفهوم على كل حراك شعبي حصل سابقاً عاشت الامة مخاضاته وعلى كل تغيير سياسي وطني وقومي تحقق وهذا لا يجوز إطلاقاً إسقاطه، لأن الأمة العربية في تاريخها الحديث عاشت مخاضات ثورية حقيقية، واستطاعت ان تحقق إنجازات عظيمة، ولأجل هذا اشتد التآمر عليها لإسقاط وضرب منصاتها الوطنية والقومية التي بنتها بالجهد والدم.
ان اعتبار أن هذا الحراك الشعبي وهو حراك نضالي بإمتياز مندرج ضمن نظرية المؤامرة، يعني أيضاً اعتبار كل فعل مقاوم للاحتلال الأجنبي بدءاً من فلسطين وحتى العراق ومروراً بلبنان وثورة الجزائر واليمن، وهو فعل نضالي بامتيازمندرج ضمن نظرية المؤامرة بذاتها. فهل انطلاقة الثورة الفلسطينية، تندرج ضمن نظرية المؤامرة، وهل ثورة الجزائر تندرج ضمن نظرية المؤامرة، وهل مقاومة الاحتلال الأميركي للعراق تندرج ضمن نظرية المؤامرة، وهل الفعل المقاوم للعدو الصهيوني في لبنان منذ بداية انطلاقة هذا الفعل في نهاية الستينيات وحتى اللحظة هو مندرج ضمن نظرية المؤامرة.
إن هذا المنطق يناقض منطق التاريخ، ومنطق السياق الطبيعي لتفاعلات الحياة المجتمعية والتي بدت في مراحل معينة تمر بحالة استكانة، ان هذه الاستكانة ليست حالة ابدية، بل هي الفترة اللازمة لانضاج واختمار الظروف الموضوعية التي يتطلبها أي عمل تغييري وثوري.
على هذا الأساس، نخلص لنقول أي توصيف ينطبق على واقع الحراك الشعبي العربي؟؟ فإذا لم يكن مندرجاً ضمن نظرية المؤامرة، ولم يكن ثورة بكل ما تعني الكلمة من دلالات، فأي توصيف يعطي له؟
إن التسمية الموضوعية التي نراها أكثر ملاءمة لتوصيف طبيعة الحراك الشعبي العربي، هي الانتفاضات العربية ذات الطابع الثوري. فهذا الحراك وبالشكل الذي ظهر من خلال مشهديته الشعبية، هو انتفاضة بامتياز، لأنها أتت لتعبر عن حالة شعبية مأزومة وتخزن في طياتها المجتمعية كل عوامل التفجر. وهذه الانتفاضات تتسم بالطابع الثوري، لأنها هدفت إلى التصدي لنظم فاسدة ولواقع سياسي استشرى فيه الفساد، وهذه الانتفاضات فتحت الواقع العربي على آفاق تغييره إيجابية، وأياً كانت المظهرية السياسية التي سيرسو عليها، ستكون أفضل من السابق طالما بقي هذا الحراك مشدوداً إلى برنامج التغيير الوطني الديموقراطي ببعده القومي.وهذا ما يتطلب أن يكون هذا الحراك محكوماً بجمله ضوابط عامة تشكل بمجموعها قانوناً عاماً، يجب عدم تجاوز أحكامه، والعودة إلى ضوابطه إذا ما حصل انحراف غير مقصود، وصد كل من يحاول حرف هذا الحراك عن أهدافه الوطنية،والضوابط العامة نلخصها بالآتي:
1- الحراك الشعبي يجب أن تكون بوصلته الأساسية، أحداث التغيير السياسي في بنن النظم الفاسدة والمفسدة والمرتهته والملحقة بمواقع الاستراتيجيات الدولية والإقليمية، والتي ينطلق تدخلها في الشأن العربي لدافع حماية مصالحها. وهذا يعني أن الحراك الذي يراد دفعه باتجاه تهديد الوحدة الوطنية، هو بالأساس ليس حراكاً وطنياً، واذا ما ظهرت بعض مؤشراته يجب مقاومتها.

2- إن الحراك الشعبي يجب أن يكون حاسماً في رفضه لأي شكل من أشكال التدخل الأجنبي، إقليمياً كان أم دولياً، لأن من يستقوي بالأجنبي، يصبح ملحقاً بالقرار الأجنبي ومنفذاً لأجندة أجنبية، وبالتالي فإن الاستقواء بالأجنبي يجب أن يدرج في باب المحرمات.

3- ان الحراك الشعبي يجب أن تكون حاملته السياسية برنامجاً وطنياً، ورافعته الشعبية قاعدة شعبية عريضة تقف على أرضيتها كل المكونات المجتمعية للقطر الذي يجري داخله الحراك، وهذا يعني أن لا مكان للطائفية والمذهبية والأثنية في مرتكزات المشروع الوطني للتغيير وإلا بطل أن يكون مشروعاً للتغيير، لأن المطلوب إحلال نظام المواطنة على قاعدة المساواة واعتبار الكل الشعبي، هو واحد في تشكليه للمكون الوطني أياً كانت انتمائاته الإيمانية.

4- إن الحراك الشعبي، يجب أن يكون ديموقراطياً في التعبير عن ذاته، وهذا يعني، إسقاط العسكرة من السلوك السياسي المعترض، وإذا ما فرض كردة فعل على عنف سلطوي مفرط في استعمال القوة المسلحة، فإن هذا الخيار يجب أن لا يكون الخيار البديل عن الخيار الديموقراطي الذي يعتمد على قوة التزخيم الشعبي في الضغط على النظام ومنظوماته السياسية والأمنية.

هذه الضوابط العامة، هي ما نراها تشكل الضوابط الواجب العمل بها في سياقات الحراك الشعبي واذا كانت لمعطيات كل ساحة عربية تشهد حراكاً، خصوصية معينة، وتفرض آليات مختلفة، في إدارة الحراك والتعامل معه من موقع الاحتضان والدعم له، وموقع الاعتراض والتصدي له، فإن هذا لا يسقط مبدأية العناوين التي جرت الإشارة إليها.
أما أين نحن من هذا الحراك الشعبي، الذي ندرجه تحت توصيف الانتفاضات الشعبية ذات الطابع الثوري؟ أنه ورغم الالتباسات التي تلف مواقف البعض، من طبيعة هذا الحراك، فنحن لا نحتار عندما يكون الصراع بين الشعب ونظام فاسد ومرتهن وقمعي. إننا دائماً مع الشعب، وحيث وقف الشعب نقف على الضفة التي يقف عليها. والحركة الثورية العربية، التي يجسد البعث أبرز شخوصها السياسية، هي في قلب الانتفاضات الثورية، لأن هذه الانتفاضات تنطلق من القضايا الإنسانية المحقة والعادلة، واذا كانت الانتفاضات الشعبية انطلقت ضد الظلم والجوع والفقر والبطالة والفساد وقمع الحرية والدولة الأمنية وتأبيد الحاكم والتوريث السياسي والتسويات المذلة مع العدو الصهيوني فإن أي تغيير في بنى هذه الأنظمة سيحمل في طياته معطيات ثورية إيجابية وأن لم تمكنها الظروف الذاتية والموضوعية من بلوغ مدياتها النهائية، وأهمية المعطى الإيجابي، أن الجماهير العربية التي علبت إدارتها السياسية والمجتمعية لعقود، عادت إلى مسرح العمليات، بأسلوب التعبير الديموقراطي، وهي في استمراريتها باعتماد هذا الأسلوب، تكون قد دخلت عملياً في بداية إعادة هيكلية الحياة السياسية للمجتمع العربي، بعدما دمرت النظم الحاكمة هذه الهيكلية، وان الف باء إعادة هي هيكلة الحركة الشعبية لصفوفها عبر إطارات سياسية تنظيمية تكون بإخراج الحراك الشعبي من ظرفيته وعشوائية وبالتالي قيادته إلى حيث يجب أن يرسو مركب التغيير. وهنا تكتسب أهمية، ان تكون الحركة الثورية العربية هي الحاضر الأكبر في التقاط المعطى الشعبي الإيجابي، والعمل بوتيرة سريعة، لتأطير الحالة الشعبية حول البرنامج الوطني للتغيير، وحتى تكون الحاضر الأكبر في الحياة السياسية. والحؤول دون استمرارية الفراغ الوطني الذي يمكن أو يعطى الفرصة لقوى لا تستند في أدائها السياسي إلى برامج وطنية مضموناً وبنيته، لملء هذا الفراغ وبالتالي التحكم بالعملية السياسية وقيادة البلاد بالاتجاه الذي لا يخدم التغيير الوطني الديموقراطي، ومسيرة النضال القومي ببعديها التوحيدي والتحريري.
إن الحركة الوطنية العربية، التي تحمل برنامجاً شاملاً للتغيير الديموقراطي والمواجهة القومية، إذا ما اتسمت حركتها بالمبادرة لالتقاط الفرصة، فإنها ستجد نفسها ضمن حاضنة شعبية وطنية بطبيعتها وكل ما تحتاج إليه هو القيادة السياسية التي تحاكي أهدافها. فالوطنية عند الجماهير الشعبية هي حالة غرائزية والتعبئة الوطنية تحقق الامتلاء السياسي الوطني للجماهير، وهي حاجة كما هي الحاجة لاملاء البطون.
وإذا كانت الجماهير العربية انتفضت فلاتها عانت طويلاً من استلابها الاجتماعي والوطني والقومي، وهي في صراعها مع السلطة هي المنتصرة حكماً. فعندما تطرح معادلة الشعب يريد إسقاط النظام، والنظام يريد إسقاط الشعب، فإن الشعب هو المنتصر، لأنه هو الدائم الأبدي، فيما الحاكم، هو الظرفي، وهو في حكمه يسعى إلى ادانة هذا الحكم، عبر اضفاء شرعية مزعومة حول نظامه.
من هنا، إننا نقق على أبواب مرحلة جديدة عنوانها انبعاث متجدد لهذه الأمة عبر انتفاضاتها ذات الطابع الثوري ونحن معها على قاعدة ديموقراطية التعبير وسلمية الحراك ووطنية المضمون وقومية الأبعاد ورفض ومقاومة كل أشكال التدخل الأجنبي وحماية وحدة الأرض والشعب والمؤسسات على أساس المواطنة الشاملة.
شبكة البصرة
الاثنين 6 ذو الحجة 1433 / 22 تشرين الاول 2012

No comments:

Post a Comment